“ولدددي ولدددي.. رشيد رشيد..”، أمٌّ مكلومة تنادي ابنها المنقول من مخفر الشرطة إلى مقر التقديم للنيابة العامة بالمحكمة الزجرية بعين السبع في الدار البيضاء. وشاب بالكاد، أخرج أحد أصابعه من شباك إغاثة بسيارة نفعية كبيرة الحجم كُتب عليها الأمن الوطني، جاحِظ العينين كأنما يُساق إلى الموت، مُحملِقا في محيط المحكمة وفي من هم داخل (صطافيت)؛ كأنه موقن بأنه لن يعود، وكأن ساعة الزمن قد توقفت.
وامرأة تلطم خدّها وحظّها العاثر وفشها وفشل زوجها، في تربية فلذة كبدهما (اللِّي خرج فالصُو)، وأسرة انتقلت بأكملها إلى المحكمة الزجرية بعين السبع، لأن مُعيلها الوحيد المشتبه فيه ينتظر قرار النيابة العامة؛ و و و…
تجمّع الجميع في ساحة فسيحة يفصلُ بينها والمحكمة الزجرية، “الترام” الذي يرمق عرباته وصوته مرتفقو الزجرية كلما مرت أمامهم وحال بينهم ومشاهدة سيارات التقديم. جِيئة وذهابا وقد وضعوا أيديهم على ظهورهم متأففين وجلين غاضبين كأنهم قنابل قد تنفجر في أي لحظة، إذ لكل واحد منهم قصة، منهم الدامع العينين ومتفطر القلب والفؤاد، ومنهم من ضاع حقه بتوقيف المشتبه فيه، ومنهم ومنهم.. الكل ينتظر تقديم أحد أفراد الأسرة؛ والكل ينتظر ما ستؤول إليه جلسة نائب وكيل الملك.
وكأنها حالة طوارئ، مكان فسيح يسعف سيارات الأمن بالدخول إليه لتفريغ حمولاتها المتكررة، يفضي إلى بهو فسيح أيضا داخل إحدى ردهات المحكمة، وأنت تلجه عن يمينه ممر ضيق بين حائط وحديد، جُعل ليمر منه المشتبه فيهم الواحد تلو الآخر، داخل قسم التقديم، يفضي مباشرة إلى حيث قاعات القضبان الحديدية، قبل العرض على نواب وكيل الملك.
في البهو الداخلي قاعات عن يمين وقاعات عن شمال، بها مكاتب ربض عليها نواب وكيل الملك كأنهم الأسد حامية عرين المجتمع والوطن، منتظرة من زاغ عن السراط المستقيم، فهي له بالمرصاد، وهي هنا لتطبيق القانون ولا شيء غير تطبيق القانون.
بوجوه حادة القسمات صارمة الأسارير، يستمعون بإمعان لكل مشتبه فيه، قبل أن يصبح متهما رسميا بقرار النيابة العامة، ليظل طيلة زمن المحاكمة بريئا حتى تثبت إدانته. ينصتون؛ يستفسرون (علاش أو كيفاش ولاش بحالاش.. وهلم جرا)؛ يدققون؛ يستنطقون.. فالكل أمام أنظارهم سيان وسواء، وإلا اختل الميزان. (وأقِيمُوا الوَزنَ بالقِسطِ ولاَ تُخسِرُوا المِيزان) صدق الله العظيم ‘سورة الرحمان الآية: 7’.
يدققون النظر في كل مسطرة، إلى حين تكييف الفعل الجرمي مع نصوص القانون وتنزيل سلطة الملاءمة حتى اتخاذ القرار الصائب على النازلة، مع تعليل مكتوب لكل اجراء يتخذه مريدو الزواكي.
محمد الزواكي في مكتب فسيح جميل، خضع لإصلاح زاده جمالا يليق بسمعة حارسة قيم المجتمع المغربي النيابة العامة، جالسا على طاولة دائرية يجري عليها اجتماعاته مع نوابه، وقد وضعت عليها عشرات الملفات، ليطلع عليها ملفا بعد ملف، ويدقق النظر في مسطرة بعد مسطرة حسب لغة أهل النيابة العامة. ذلك أن بين ثنايا كل ملف قصة من قصص ألف ليلة وليلة بالمدينة الغول، قصة لعمري جنحة تواطأت فيها كل الأركان، ركن مادي ومعنوي وقانوني بمعنى نص قانوني يُجرم، إذ لا جريمة ولا عقوبة الا بنص.
حاد البصر ومتوقد البصيرة، لا بالطويل ولا بالقصير، لا يبتسم إلا لماما، دمث الخلق يستمع كثيرا أكثر مما يتكلم، إلا مع نوابه فالعكس صحيح، يتفحص وجوه محاوريه ليُكون قناعاته الشخصية، ذلك أن مسارا طويلا في النيابة العامة، يُفضي بأهلها إلى قراءة شخصيات البشر بين الصادق والكاذب؛ بين صاحب المعقول والمتلاعب..
حوار جميل ذاك الذي كنا عنه شهودا، حينما حاور الزواكي أحد المشتبه فيهم، إذ تغيرت أسارير وجه وكيل الملك، فتغيرت سحنته، ورمق الشاب بوجه عبوس يتطاير منه الشرر كضرغام دخل عرينه غريب، فاستحال المشتبه فيه طفلا يطلب الرحمة (يزاوك.. يعورط)، خاشع البصر يرهقُه ذِلة، ينظر إلى الزواكي، من طرف خفي كأنما أغشي وجهه قطعا من الليل مُظلما.
وتستمر حالة الطوارئ اليومية، الكل منهمك في استقبال المشتبه فيهم أغلبهم شباب وبعضهم شيب، وقد نقلتهم 24 سيارة للأمن الوطني من الاثنتي عشرة دائرة أمنية، المرتبطة بالمحكمة الزجرية بعين السبع، وكل يوم يُنقل نفس العدد (24) أو يقل أو يكثر حسب حصاد الأيام والدوائر الأمنية وساكنتها، ينقلون مئات المساطر أو المشتبه فيهم أو بلغة الملفات حوالي 280 ألف ملف في السنة الواحدة.
وتستمر حالة الطوارئ، إذ كلما انتهى نائب لوكيل الملك من عمله، تأبّط ملفاته واتجه صوب شيخه إن صح التعبير، طالبا المشورة وتوقيع الملف والقرار النهائي السليم. ذلك أن حريات المواطنين ليست لهوا ولعبا.
تحلق النواب حول وكيل الملك، كأني بها جلسة شيخ يستفسر مريديه عن قراراتهم ومدى حسن استعمالهم لسلطة الشرعية وسلطة الملاءمة؛ وتكييف النص القانوني مع الركن المادي للجنحة؛ ومدى خطورة الفعل الجرمي؛ وخطورة المشتبه فيه؛ وهل هناك حالات عود وسوابق قضائية..
“سي الزواكي غادين نخرجو ريثما تكمل مع السادة النواب..”طلب طاقم البيضاوي مغادرة مكتب وكيل الملك احتراما للقضاء والعدالة و. و.. “معندنا منخبيو.. بقاو معانا تطالعو على كيف تجري الأمور.. وبطبيعة الحال لن نكشف عن أسماء وصفات المتابعين..” يرد وكيل الملك، بكل ثقة في النفس.
ورغم ذلك، واحتراما لسرية الملفات، التمس منا السيد محمد الزواكي الخروج حين اتخاذه ونوابه القرارات النهائية.
مسطرة بعد مسطرة، كلما تم الانتهاء من مسطرة جيء بالتي تليها، وكلما فرغ من ملفات ومساطر نائب ما، شرع زميله في سرد قصص المسطرة التالية قصة بعد قصة؛ والإجراء الذي اتخذه نائب وكيل الملك في حق المشتبه فيه أو المشتبه فيهم، وهكذا دواليك..
صادف ان اتخذ أحد نواب الملك، كأني به الشاب اليافع، وللإشارة فمعظمهم شباب، قرارا كأنه أغضب أباه أو مريد رجّ عمله قلب شيخه الصوفي، ليسأل الأخير مريده: “آش درتي معاه (المشتبه فيه)؟”، “أمرت باعتقاله” يجيب النائب؛ “وما دليلك؟” بعد أن حدج النائب بنظره حادة يستفسر الوكيل نائبه.
فاستطرد النائب الشاب في دفوعاته كالمحامي أمام رئيس الجلسة، منافحا عن القرار الذي اتخذه، فلم يقتصر الأمر على ذلك، بل رفع وكيل الملك الأمر على أنظار من حضرَ الجلسة الجميلة الرائعة من النواب، كأنها مائدة عِلم تناقش مصير وحرية مواطن مغربي، فانقسمت الجسلة الى فريقين، اثنان مع قرار الاعتقال؛ واثنان ضد قرار الاعتقال، وبالتالي إطلاق سراح المشتبه فيه، وكل الفريقين له مببراته وحججه وحسن ممارسته لسلطة الملاءمة فكان القرار الأخير لفريق وكيل الملك باطلاق سراح القابع في الحراسة النظرية خلف القضبان.
جميل بكل المقاييس، أن تتأكد أن حريات المواطنين المشتبه فيهم بين أيدٍ أمينة؛ جلسةٌ بالف معنى؛ جلسة أفضل من دروس ألف جامعة، مع احترامي الشديد للأخيرة التي نهلنا منها أيضا، وتشبع وارتوى القاضي الجالس والواقف حب القاعدة القانونية أم التشريع فيها؛ جميل ان يتواضع المسؤول للشاب كي يغرس فيه الأمل والحب والعلم والمعرفة، بل الأصوب من ذلك، أن يضع المسؤول القضائي تجريبته رهن إشارة من يشتغل معه.
بين يديه ملف من الملفات، أو مسطرة من المساطر، وهو يدقق النظر في إجراء اتخذه أحد نوابه معللا امره باعتقال المشتبه فيه؛ لاعترافه، قبل توقيع الملف او المسطرة، استشاط الشيخ الزواكي غضباً: “لانعلل اعتقال المشتبه فيهم لاعترافهم؛ بل لخطورة الفعل الجرمي ولخطورة المشتبه فيه وهل هو من ذوي السوابق..” جواب أحالني على قولٍ للزواكي نفسه، الذي أكد لنا أن القضاء صنعة؛ وهو لعمري كذلك.
60 قاضيا؛ و160 موظفا؛ وجلسات ماراطونية يوميا وأسبوعيا، للبث في حوالي 280 ألف ملف سنويا؛ و12 دائرة أمنية (شرطة ودرك والفرقة الوطنية للشرطة القضائية..)؛ وكم هائل ومَهول من الملفات؛ وقضايا خطيرة نوعية تثير الرأي العام الوطني والدولي في بعض الاحيان، أرقام فلكية بزجرية عين السبع بالدار البيضاء المحكمة المصنفة الوحيدة على الصعيد الوطني في القضايا الزجرية.
ضغط رهيب على خدام السلطة القضائية لا تتحمله الجبال؛ بينما القاضي الجالس لا يعذر إن لم يحرر أحكامه، وقائعها وحيثياتها ومنطوقها بنفسه، والقاضي الواقف مطالب بالاستنطاق وتعليل اوامره وملتمساته والدفاع عن قراراته في رحاب الجلسات.
كلما خرج نواب دخل آخرون، لمكتب وكيل الملك السيد محمد الزواكي؛ وكلما دخل مواطنون للمحكمة الزجرية بالدار البيضاء خرج آخرون، وكذلك لمحاكم الدائرة الاستئنافية بذات المدينة؛ ولمحاكم المملكة؛ طلبا لعدل السلطة القضائية المغربية والميزان؛ وكلما انتهى البيضاوي من سرد خيوط قصة؛ استهوته بغنجها ودلالها القصة التي تليها، عن أم السلط التي فتحت بيتها للبيضاوي، الذي أقسم بأغلظ الأيمان أن يدخل بيتها بحب وبكل ثقة وبمهنية وموضوعية واحترام، وكذا بأمن وأمان..