حينما تلتقي الإرادة الحازمة للمراقبة الإدارية، بإنفاذ القانون عبر الزجر القضائي، تكون النتيجة تكريس المبدأ الدستوري القاضي بربط المسؤولية بالمحاسبة وتخليق الحياة العامة.
سجلت الأسابيع الأخيرة موجة من قرارات توقيف رؤساء عدد من الجماعات الترابية على الصعيد الوطني، واحالة طلبات عزلهم على القضاء الإداري، وكانت حصة الأسد منها بجهة الدار البيضاء سطات. ماذا يعني كل ذلك؟ وما هي المستندات القانونية المعتمدة من طرف وزارة الداخلية؟ وكيف تعامل القضاء الإداري مع طلبات العزل؟ وكيف تم تعليل الأحكام القاضية بالعزل الصادرة عنها؟
بعد تجربة طويلة، رائدة ومتدرجة، اختار المغرب نظام اللامركزية واللاتركيز الإداري والترابي، عبر وضع اطار قانوني وسياسي لتنظيم الجهات والجماعات في المناطق الحضرية والقروية، وأقر دستور 2011 بمقتضى الفصل 135 لهذه الجماعات بالشخصية المعنوية وتسيير شؤونها بكيفية ديمقراطية. وبناء عليه صدرت القوانين التنظيمية للجماعات الترابية 111.14-112.14-113.14، منتقلة بعلاقة الجماعات الترابية بوزارة الداخلية، من مستوى الوصاية الكاملة التي كانت تخضع قرارات المجالس الجماعية للوصاية الكاملة والموافقة القبلية لوزارة الداخلية، الى الرقابة البعدية التي تعطي الحق للعمال في بسط مراقبتهم على اجتماعات ودورات المجالس الجماعية ، ومدى احترام قرارتها ومقرراتها للقانون ، الشيء الذي مكن الجماعات من ممارسة اختصاصاتها عبر مبادئ التدبير الديمقراطي والمقاربة التشاركية ومبدأ التفريع الذي يقسم مجال تدخلها الى اختصاصات ذاتية تدبرها بصفة مستقلة، واختصاصات المنقولة اليها من الدولة، واختصاصات مشتركة.
في هذا الاطار الدستوري والقانوني، قامت وزارة الداخلية عبر عمالها بتحريك آلية المراقبة في حق مجموعة من رؤساء المجالس الجماعية، عن طريق ايفاد لجان التفتيش من المفتشية العامة للإدارة الترابية في اطار المهام الموكولة لها بمقتضى المرسوم رقم 1086-19-2 المؤرخ في 30 يناير 2020، للوقوف على الاختلالات والتجاوزات المسجلة في حقهم. وقد قامت اللجان الموفدة الى مختلف الجماعات بوضع تقاريرها التي على أساسها باشر العمال بالدوائر الترابية المعنية مسطرة العزل عن طريق إحالة ملفات الرؤساء المعنيين على القضاء الإداري.
طلبات وقرارات العزل همت على صعيد جهة الدار البيضاء سطات رؤساء 12 جماعة، شملت كلا من جماعة سيدي بوحيا بسيدي بنور، جماعة أولاد زيدان ببرشيد، جماعة أولاد عزوز بإقليم النواصر، جماعة دار بوعزة، جماعة سطات. وقد بثت فيها المحكمة الإدارية بالدار البيضاء بأحكام قضت بالعزل مع النفاذ المعجل.
وقد همت المخالفات التي وقفت عليها لجان التفتيش التابعة للمفتشية العامة للإدارة الترابية، اختلالات وتجاوزات في تدبير ميدان التعمير والبناء، واختلالات وتجاوزات في تدبير الرخص الاقتصادية، والأفعال المتعلقة بتدبير النفقات، والأفعال المتعلقة بإعداد برامج العمل وبرمجة الميزانية وتنفيذها. وكما يبدو من طبيعة المخالفات المسجلة بتقارير لجان التفتيش، أنها مست مجالات حساسة لها علاقة بتهيئة المدن بما يحافظ على جماليتها ويحد من مظاهر العشوائية، ولها أيضا علاقة بالنشاط الاقتصادي المفروض أن يكون مهيكلا ومتناغما مع المشاريع التنموية المستدامة المعتمدة من طرف الدولة على المستوى الاستراتيجي، ولها علاقة بحماية المال العام وحسن تدبير الميزانيات وتنفيذها فيما يخدم التنمية الاقتصادية والاجتماعية للجماعات المعنية.
وقد تصدت المحكمة الإدارية بالدار البيضاء باقتدار وحكمة للبث في مختلف طلبات العزل، وناقشت بعمق مضامين التقارير المنجزة من طرف لجان التفتيش، وللأجوبة التي وجهها الرؤساء وأعضاء المجالس المعنيون الى العمال جوابا على المخالفات المنسوبة اليهم والمنصوص عليها بالمادة 65 من القانون التنظيمي 113.14، وبعد التداول أصدرت أحكامها بناء على مقتضيات المادة 63 من القانون التنظيمي، وعللت قراراتها استنادا الى مقتضيات القوانين التنظيمية والمذكرات الوزارية، وعللت قرار شمول أحكامها بالنفاذ المعجل بكون شغور المنصب بعد قرار عزل الرئيس أو العضو من شانه أن يعرقل مسار المرفق العمومي، مما يقتضي فسح المجال لملأ المناصب الشاغرة عبر الآلية الديمقراطية.
لقد أبانت هذه الإجراءات التي بادرت وزارة الداخلية باتخاذها بكل الحزم والجرأة الضروريين، أن الاختيار الدستوري الذي اعتمده الدستور المغربي لسنة 2011، أن اخضاع الجماعات الترابية لمراقبة الوزارة عبر عمالها وولاتها، يخدم بشكل عميق مسار التنمية المستدامة، ويضمن التناغم بين السياسات الاستراتيجية للدولة على الصعيد المركزي بين البرامج المعتمدة من طرف الجماعات في اطار مخططاتها التنموية المحلية، وفي نفس الوقت تأهيل هذه الجماعات سياسيا وقانونيا وتدبيريا لخوض غمار التنمية الجهوية والمحلية بما يحقق التكامل والمساواة بين الجهات في مسارها التنموي، ويعطي للمغرب إمكانية الاستثمار الأمثل لكل ثرواته المادية والطبيعية والبشرية، وجعل كل الفاعلين السياسيين شركاء حقيقيين في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بوضع الرجل المناسب في المكان المناسب والحرص على تخليق الأداء السياسي لها بالحفاظ على الثروة الوطنية وحسن تدبير مواردها كهيئات منتخبة ديمقراطيا.
حقيقة أكدتها الإجراءات المتخذة مؤخرا من طرف وزارة الداخلية، أن التقاء الإرادة الوطنية من خلال المراقبة الإدارية والرقابة القضائية، تجسيد حي وواضح لدولة القانون والمؤسسات، وتكريس للمبدأ الدستوري الذي يقضي بأن النظام الدستوري للمملكة يقوم على أساس فصل السلط وتوازنها وتعاونها، والديمقراطية المواطنة والتشاركية، وعلى مبادئ الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة.