دأب المغاربة طرح سؤال غلاء السمك كل شهر وكل سنة وفي كل مناسبة؛ وهم الشعب الذي يمتلك بحرين من 3500 كلم، وثروة سمكية لا تقدر بثمن، لكن يظل تركيز الغالبية العظمى منهم على نوع “السردين والشرن” في غالب الأحيان، الذي استحال مقياسا ومؤشرا على الغلاء، كأنه الخبزة المدعمة التي لا يجب أن يتجاز سعرها 1.20 درهما، وإلا فالأمر مثير يدعو إلى الريبة والشك؛ أما باقي أنواع السملك فلا شأن لهم بها، وكأن السردين وحده ما يستحق الغوص في أعماق أمعائهم.
في كل أسواق المغرب، يتفقد المغاربة أسعار السمك كل صباح، ليثير نهمهم على استهلاك الخبر في المنزل وفي العمل، بغضب يقاربون حيف وظلم عدم تمتعم بخيرات الوطن، بينما يزاداد الأمر حدة والنقاش ضراوة في شهر رمضان من كل عام وخاصة على شبكات التواصل الاجتماعي، حيث تتحول أسعار الأسماك إلى لغز محير. ذلك أن “الحوت” أصبح عملة نادرة على موائد العديد من الأسر، بسبب غلاء الأسعار وتعدد الوسطاء.
لكن هذه السنة التي هي استمرار لسبع سنوات خلت، كان هناك بصيص أمل، فقد انتشرت في عدة مدن وقرى نقاط بيع جديدة تعرض الأسماك المجمدة بأسعار أقل من المعتاد (ما يقارب النصف نسبيا) كما صرح عديد المتدخلين في ندوة صحافية نظمها لهذا الغرض أمس الأربعاء بالدار البيضاء، أعضاء مبادرة “الحوت بثمن معقول” في نسختها السابعة بتنسيق مع كتابة الدولة المكلفة بالصيد البحري تحت عنوان: “مبادرة الحوت بثمن معقول حصيلة وافاق”.
بدا في بعض الأسواق بالمغرب ومراكز البيع بالدار البيضاء، مغاربة يتحلقون على خيمة يعرض فيها أسماك مجمدة للبيع، وعلى غير المعهود يتساءل البيضاويون: “كيف يمكن أن يكون السمك أرخص هنا بينما في السوق المجاور يباع بثمن مرتفع؟”
لقد شكلت الندوة فضاءا فسيحا، لفتح ﻧﻘﺎش صريح ومواطن لسبر أغوار مبادرة مواطنة، جاءت لتجيب عن تساؤلات الإعلام والمواطنين ولتحسيسهم ولتوعيتهم من قبل مهنيين في القطاع، ﺣﻮل ﺣﻘﻮق وﺗﻄﻠﻌﺎت اﻟﻤﺴﺘﮭﻠﻚ اﻟﻤﻐﺮﺑﻲ ﻟﻸﺳﻤﺎك ﻣﻦ ﺟﮭﺔ، وإﻛﺮاھﺎت اﻟﺴﻮق واﻟﺘﻘﻠﺒﺎت اﻟﻤﻨﺎﺧﯿﺔ وﺿﻮاﺑﻂ اﺳﺘﺪاﻣﺔ اﻟﺜﺮوة اﻟﺴﻤﻜﯿﺔ اﻟﻮطﻨﯿﺔ ﻣﻦ ﺟﮭﺔ أﺧﺮى، كما يشير إلى ذلك، ورقة تقديمية للندوة توصل البيضاوي بنسخة منها.
لقد كانت الندوة فرصة سانحة بحضور ومشاركة المرصد المغربي لحماية المستهلك وﺑﺎﺣﺜﯿﻦ وﻣﺨﺘﺼﯿﻦ وﺷﺮﻛﺎء ﻋﻤﻮﻣﯿﯿﻦ وﺧﻮاص ﺑﻘﻄﺎع اﻟﺼﯿﺪ اﻟﺒﺤﺮي، لتقديم ﺣﺼﯿﻠﺔ اﻟﻤﺒﺎدرة ﺑﻌﺪ ﻣﺮور ﺳﺒﻊ ﺳﻨﻮات ﻋﻠﻰ إطﻼﻗﮭﺎ، واﻗﺘﺮاح ﺣﻠﻮل اﺳﺘﺒﺎﻗﯿﺔ ﻟﻤﺘﻄﻠﺒﺎت اﻟﻤﺴﺘﮭﻠﻚ اﻟﻤﻐﺮﺑﻲ اﻟﻤﺴﺘﻘﺒﻠﯿﺔ ﺧﻼل ﻓﺘﺮة ﺷﮭﺮ رﻣﻀﺎن اﻟﻤﻘﺒﻞ ﺳﻨﺔ 2026/1447؛ الذي سيصادف زمن الراحة البيولوجية بالمغرب.
يقود المبادرة التي انطلقت عام 2019 تحت شعار “الحوت بثمن معقول”؛ مقاولات مغربية عاملة في قطاع الصيد بأعالي البحار، بهدف كسر احتكار الوسطاء وجعل الأسماك في متناول جميع المواطنين، بالتنسيق مع كتابة الدولة المكلفة بالصيد البحري والسلطات المحلية.
لقد نجحت المبادرة منذ انطلاقها في تزويد 1000 نقطة بيع مجهزة عبر 40 مدينة وقرية بأكثر من 4000 طن من الأسماك المجمدة، لتكون خيارا متاحا أمام المستهلكين بأسعار معقولة ووفق معايير السلامة الصحية.
بين ثنايا الندوة، طرح خبراء وباحثون تساؤلات مهمة، هل يمكن أن تصبح هذه المبادرة نموذجا دائما طيلة السنة، وليس فقط خلال رمضان؟
أجمع المتدخلون على أن المشكلة ليست فقط في ارتفاع الأسعار، بل أيضا في تقلبات المخزون السمكي وتأثير التغيرات المناخية على الكميات المصطادة. من جهته، أكد ممثل المرصد المغربي لحماية المستهلك أن للمواطنين دورا في تغيير المعادلة، عبر توجيه استهلاكهم نحو أسماك متنوعة وعدم التركيز على أصناف معينة مثل السردين، مما يقلل الضغط على سوق محدودة العرض.
وكأن بالندوة تطرح أسئلة عميقة ليس لأي أحد العذر في التهرب من الجواب وخاصة الدولة والمسؤولين بدون استئناء بمن فيهم المواطن المغربي في المقام الأول؛ على أساس أن الحل لا يكمن فقط في المبادرات المؤقتة، بل في إعادة النظر في طرق تسويق وتوزيع الأسماك داخل المغرب؛ وكأني بالصياد يتساءل: نحن نصطاد ونبيع بثمن معقول فمن يمنعه، إذن، عن موائد المغاربة؟ ولماذا يصل للمستهلك بثمن مرتفع؟”.
في انتظار حلول أكثر استدامة، تبقى “مبادرة الحوت بثمن معقول” خطوة إيجابية في اتجاه تمكين المغاربة من الاستفادة من ثروتهم البحرية، بعيدا عن أمواج المضاربة العاتية التي تبعد السمك عن موائدهم، لتلتهمه الحيتان الضخمة والتماسيح المفترسة.
للتذكير، فقد حضر ونشط أشغال هذه الندوة السادة: الدكتور بادير محمد (خبير دولي في علوم الثروة السمكية و تربية المائية / استاذ جامعي)؛ والأستاذ عباد عبد العزيز (مجهز بواخر الصيد منسق مبادرة الحوت بثمن معقول)؛ والأستاذ بوسري عبد الرحمن (رئيس مؤسس الكونفدرالية المغربية للصيد الساحلي بالمغرب)؛ والأستاذ حسين أيت علي (رئيس المرصد المغربي لحماية المستهلك)؛ والأستاذ عبد العالي لمودني (مدير مركزي بالمكتب الوطني لصيد)؛ والأستاذ عبد الله المستنير (مدير الصيد البحري)؛ والدكتور نجيح محمد (المدير العام للمعهد الوطني للبحث في الصيد البحري)؛ والدكتور عبد الرحمان هاشي (رئيس القسم البيطري بـONSSA)؛ وقد نشط فعاليات الندوة الأستاذ عبد الرحمان اليزيدي (منسق إئتلاف الصيد والتنمية المستدامة).