في خطوة تعيد إلى الأذهان سياسات الحماية التجارية التي شهدها العالم في ثلاثينيات القرن الماضي، أعاد الرئيس الأميركي دونالد ترامب فرض رسوم جمركية صارمة، طالت الحلفاء والمنافسين على حد سواء، مما ألقى بظلال قاتمة على الأسواق المالية وأثار قلقا عالميا بشأن تداعيات هذه السياسة على النمو الاقتصادي والتجارة الدولية.
تسببت الحزمة الأخيرة من الرسوم الجمركية في ارتباك عالمي، حيث هوت مؤشرات الأسهم في مختلف الأسواق المالية، فقد سجل مؤشر نيكاي الياباني انخفاضا بنسبة 2.75%، كما فقدت بورصة فرانكفورت 0.70% من قيمتها، بينما شهدت وول ستريت تراجعا حادا، حيث سجل مؤشر ناسداك خسارة بلغت 5.97%، وهي الأسوأ منذ عام 2020.
هذه الخسائر ليست مجرد أرقام، بل تعكس مخاوف المستثمرين من اضطراب سلاسل التوريد، وزيادة تكاليف الإنتاج، وتراجع القدرة التنافسية للصناعات التي تعتمد على المواد الأولية المستوردة، كما أن التوترات التجارية تدفع الشركات الكبرى إلى إعادة النظر في استثماراتها، وهو ما بدا واضحا مع إعلان شركة “ستيلانتيس” إغلاق مصنع كرايسلر في كندا لمدة أسبوعين.
بالنسبة للرئيس الأميركي، فإن هذه التعريفات الجمركية تعتبر أداة لإعادة التوازن إلى الاقتصاد الوطني، عبر تقليص العجز التجاري مع الصين وأوروبا، وتعزيز الصناعة المحلية، وتأمين الوظائف للأميركيين.
ولكن التجربة السابقة للحرب التجارية بين واشنطن وبكين في 2018-2019 أظهرت أن هذه السياسات قد تكون سلاحا ذا حدين، حيث أنها لم تؤد إلى تقليص العجز التجاري بشكل ملحوظ، بل زادت من تكاليف الإنتاج على الشركات الأميركية نفسها، مما انعكس سلبا على المستهلكين وأسعار السلع.
وعلى مستوى العواقب المحتملة على الاقتصاد العالمي، يمكن إيجازها في ما يلي:
1. تفاقم تباطؤ النمو العالمي:
صندوق النقد الدولي حذر من أن هذه الخطوة تهدد بمزيد من التباطؤ في الاقتصاد العالمي، الذي يعاني أصلا من تداعيات ارتفاع معدلات التضخم والسياسات النقدية المشددة التي اعتمدتها البنوك المركزية.
2. تهديد النظام التجاري العالمي:
تصاعد النزعة الحمائية يضعف أسس التجارة الحرة التي قامت عليها منظمة التجارة العالمية، المديرة العامة للمنظمة، نغوزي أوكونجو إيويالا، نبهت إلى أن هذه الرسوم قد تقلص التجارة العالمية بنسبة 1% هذا العام، وهو رقم مقلق بالنظر إلى هشاشة الاقتصاد العالمي بعد الأزمات المتتالية.
3. اضطراب أسواق الطاقة:
مع تصاعد التوترات التجارية، انخفضت أسعار النفط إلى أدنى مستوياتها منذ 2021، وهو ما يعكس قلق المستثمرين من تراجع الطلب العالمي بسبب هذه السياسات. في المقابل، شهدت أسعار الذهب ارتفاعا قياسيا، باعتباره ملاذا آمنا للمستثمرين في أوقات الأزمات.
في مواجهة هذه الإجراءات، تراوحت ردود الفعل بين التهديد بالانتقام والدعوة إلى الحوار، ففرنسا مثلا، دعت إلى استجابة أوروبية موحدة، بينما شددت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني على ضرورة إلغاء الرسوم الجمركية بدلا من زيادتها، أما كندا، فقد أعلنت عن رسوم جمركية مضادة بنسبة 25% على بعض السيارات المستوردة من الولايات المتحدة.
ورغم أن البيت الأبيض ترك الباب مفتوحا أمام المفاوضات، إلا أنه حذر من أن أي خطوة انتقامية ستقابل بتدابير إضافية، مما يزيد من احتمالات اندلاع حرب تجارية شاملة قد تؤدي إلى نتائج كارثية على الجميع.
يبدو أن العالم على أعتاب مرحلة جديدة من الاضطرابات الاقتصادية، حيث تتداخل النزعة الحمائية مع التحديات الهيكلية التي تواجه الاقتصاد العالمي، وبينما تراهن إدارة ترامب على حماية الصناعة الوطنية، فإن هذه السياسة قد تأتي بنتائج عكسية، عبر تأجيج التوترات التجارية، وزيادة الضغوط التضخمية، وتهديد الاستقرار المالي العالمي.
فهل نشهد قريبا موجة جديدة من الأزمات الاقتصادية العالمية، أم أن الحكومات ستتمكن من احتواء التداعيات قبل فوات الأوان؟ الأيام القادمة ستكشف عن الإجابة.