مساحة اعلانية

الصين ويوم التحرير الأمريكي، أو حينما تصب الفوضى في مصلحة التنين

مساحة اعلانية
مساحة اعلانية

في الوقت الذي أعلن فيه دونالد ترامب عن فرض رسوم جمركية شاملة ضمن ما أسماه “يوم التحرير”، متعهدا بإعادة صياغة النظام التجاري العالمي لصالح العمال الأمريكيين، بدت الصين وكأنها الخصم المستهدف، لكنها في العمق قد تكون المستفيد الأكبر من هذا التحول الأمريكي نحو الانعزالية.

لكن المقاربة التقليدية التي تنظر إلى المواجهة بين واشنطن وبكين كصراع مباشر، تتجاهل زاوية مهمة: أن واشنطن لا تضر ببكين بقدر ما تضر بنموذجها القيادي العالمي.

الصين، التي لطالما صورت نفسها كقوة صاعدة مسؤولة، تستغل هذا الشرخ في مصداقية أمريكا لترسيخ موقعها كمركز توازن بديل، لا سيما في آسيا، وأبعد من ذلك.

التحول الأمريكي نحو الحمائية، خصوصا في عهد ترامب، يكشف عن تناقضات داخلية في الرؤية الأمريكية للعالم، فبينما يسعى ترامب إلى معاقبة الصين اقتصاديا، يوسع نطاق العقوبات لتشمل الحلفاء التقليديين، ما يخلق فجوة جيوسياسية بدأت بكين بملئها بذكاء وهدوء.

حركات بكين لإحياء اتفاقات التجارة الحرة مع اليابان وكوريا الجنوبية ليست مجرد رد فعل تقني، بل خطوة استراتيجية لملء فراغ الثقة الذي خلفه تراجع القيادة الأمريكية في المنطقة. بهذه الخطوات، تعيد الصين رسم المشهد الآسيوي لصالحها، مقدمة نفسها كبديل أكثر استقرارًا وواقعية.

في سرديتها السياسية والدبلوماسية، تقدم بكين “يوم التحرير الأمريكي” كدليل على انكماش واشنطن إلى الداخل، وتخليها عن التزاماتها الدولية؛ هذا الخطاب، الذي ربما كان يبدو مستبعدا قبل سنوات، بات يجد آذانا صاغية في عواصم متعددة شعرت بالخيانة من سياسة ترامب الأحادية.

ليست المسألة مجرد حرب رسوم جمركية، بل حرب على سردية القيادة العالمية، فبينما تتراجع واشنطن عن الالتزام بالمعايير الدولية، تستغل الصين اللحظة لتظهر كقوة مسؤولة تدعو إلى الاستقرار والشراكة الاقتصادية غير المشروطة.

الولايات المتحدة اليوم تبدو، في نظر كثيرين، كقوة تسعى إلى إعادة فرض هيمنتها لا عبر الإقناع أو التحالفات، بل عبر العقوبات والضغوط، هذا السلوك، وإن أضعف الصين اقتصاديا، إلا أنه قوّى حجتها أمام العالم بأنها ضحية لنظام دولي غير عادل، تقوده قوة أنانية وغير متزنة.

في المقابل، تجيد الصين توظيف فلسفتها القائمة على “النمو الصبور” و”الشراكات المصلحية” لتقديم بدائل مغرية للشركاء التقليديين للولايات المتحدة، سواء في آسيا، أو حتى في أوروبا وإفريقيا.

قد لا تكون الصين في موقع مريح على المدى القصير، خصوصًا مع تأثير الرسوم على صادراتها، لكنها ترى في سياسة ترامب فوضى مخصبة لزراعة نفوذ طويل الأمد، وما بين التصعيد الأمريكي وفقدان الثقة الدولية، تقدم الصين نفسها كـ”نظام بديل”، لا من منطلق التفوق، بل من منطلق الانضباط والاستقرار.

“يوم التحرير” كما صوّره ترامب، كان موجها ضد الصين، لكنه أفرز واقعا دوليا يخدم طموحاتها، فبكين، بنهجها البراغماتي، لم تحتج إلى الرد بالضجيج، بل اكتفت بالتحرك الدقيق داخل الفراغات التي خلفها الحليف الأمريكي المهتز، في عالم يعاد تشكيله، قد تكون الصين أكثر من مجرد متلق للهجمات… قد تكون الرابح الهادئ.

 

شارك المقال شارك غرد إرسال
مساحة اعلانية
مساحة اعلانية