في عالم مضطرب تهزه الصراعات، والتقلبات الجيوسياسية، والتجاذبات الدبلوماسية، يبرز الموقف المغربي كأنموذج في الاتزان والرؤية الاستراتيجية الواضحة؛ لقاء وزير الداخلية المغربي، السيد عبد الوافي لفتيت، بنظيره الفرنسي، السيد برونو روتايو، ليس مجرد مناسبة بروتوكولية، بل محطة مفصلية تؤكد الخط المتزن الذي تتبناه المملكة في علاقاتها الخارجية، المبنية على الشراكة المتوازنة والرابح-رابح.
شراكة تقوم على الثقة المتبادلة والمصالح المشتركة، ذلك أن الاجتماع بين الوزيرين لم يكن لقاء شكليا، بل حوارا استراتيجيا معمقا حول الأمن والهجرة، وهما ملفان ثقيلان وحساسان في العلاقات الدولية اليوم، وقد أظهر الجانب المغربي مرة أخرى قدرته على التعامل مع هذه القضايا الشائكة بنضج مؤسساتي، ومقاربة شمولية وواقعية، تعزز من مكانته كشريك يعتمد عليه على المستويين الأوروبي والدولي.
ما يميز هذا اللقاء هو انبثاقه من الإرادة السياسية العليا التي عبر عنها إعلان الشراكة الاستثنائية بين جلالة الملك محمد السادس والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في أكتوبر 2024، وهذا يظهر مدى انسجام السياسة الخارجية المغربية بين مستوياتها العليا والتنفيذية، وهو انسجام قلما يوجد في محيط مضطرب بالتناقضات.
أبرز ما يمكن التوقف عنده في هذا اللقاء هو التأكيد الفرنسي الواضح على سيادة المغرب الكاملة على أقاليمه الجنوبية، وهي رسالة سياسية قوية تعكس متانة العلاقة بين الرباط وباريس، ويأتي ذلك في وقت تشهد فيه دول أخرى، مثل الجزائر، تأزيما متزايدا في علاقاتها الخارجية بسبب مواقف متشنجة وغير واقعية.
المغرب لم ينجرف نحو التوتر، بل عزز الحوار البناء كوسيلة لحل القضايا المشتركة، وقدم مقترحات عملية، من بينها إرساء إطار جديد وشامل للتعاون الأمني، وتحديث الاتفاقيات الثنائية بما يتماشى مع التحديات الراهنة، هذا التحرك المغربي يؤكد أن الدبلوماسية ليست فقط فن إدارة الأزمات، بل أيضا فن صناعة الفرص.
في الوقت الذي يكتفي فيه البعض بإلقاء اللوم على الآخر أو التلويح بالمخاطر، يعرض المغرب نموذجا إنسانيا وشاملا لإدارة ملف الهجرة، يجمع بين الحزم في حفظ النظام والإنسانية في احترام الكرامة، المقاربة المغربية، المستلهمة من التوجيهات الملكية السامية، لقيت إشادة واضحة من الجانب الفرنسي والافريقي والدولي، خصوصا من خلال عمل “مجموعة الهجرة المختلطة الدائمة” المغربية الفرنسية، التي تعد آلية مرجعية في التعاون الميداني بين البلدين.
التعاون المغربي-الفرنسي لا يقتصر على الجانب الأمني، بل يمتد إلى الوقاية المدنية وتدبير الأحداث الكبرى، ما يعكس رؤية شاملة لتوسيع آفاق التعاون في مختلف المجالات؛ هذا التوجه يرسخ مبدأ الشراكة لا التبعية، والتكامل لا التصادم.
وهو ذات النهج الذي يطبقه المغرب في علاقاته مع جيرانه جنوبا، حيث يوطد شراكاته مع دول إفريقيا في إطار رابطة المصالح المشتركة، وشمالا مع أوروبا على قاعدة الاستقرار والتنمية، وغربا مع أميركا اللاتينية ومع آسيا على أساس الانفتاح والتنوع.
في لحظة دولية تتسم بالتوجس، والعلاقات الثنائية التي تنكسر عند أول خلاف، يقدم المغرب دروسا في الدبلوماسية الهادئة والتفاوض الذكي، رزانته ليست ضعفا، بل تعبيرا عن ثقة في النفس ومكانة وازنة في الساحة الدولية.
وهكذا، يثبت المغرب من جديد أن السياسة ليست صراخا ولا عويلا ولا مزايدات، بل مشروع دولة، وبرنامج ثقة، ورؤية ملكية واضحة المعالم، تحول الجوار إلى شركاء، والتحديات إلى فرص، والانتماء الإفريقي والمتوسطي إلى رافعة للتنمية والازدهار.