على مقربة من المحكمة الاجتماعية بالدار البيضاء، حيث يختلط عبق العدالة برنين المرافعات، ينتصب شامخا صرح من صروح العلم والمعرفة: جامعة محمد السادس للعلوم والصحة، التي تزينت ببهاء خاص بمجاورة المستشفى الجامعي الدولي الشيخ خليفة، كأنما تصطف معالم المدينة لتشهد على حدث قاري استثنائي.
منذ الساعات الأولى للصباح، كان المشهد مختلفا، سيارات رسمية؛ حراسة مشددة؛ وأسماء مرموقة من رجال القضاء والقانون من مختلف أنحاء إفريقيا (حوالي 20 بلدا)، كلهم اجتمعوا على كلمة سواء: تعزيز استقلال القضاء، وتوحيد جهود العدالة في قارتنا السمراء.
في قاعة رحبة فسيحة جميلة وبتنظيم بديع محكم لم يترك فيه للصدفة نصيب، غصت بالحضور؛ افتتح رئيس الودادية الحسنية للقضاة، محمد رضوان، أشغال المؤتمر مؤكدا أن “هذا اللقاء مناسبة للنقاش وتبادل الخبرات وتوحيد الرؤى والمقاصد في سبيل الارتقاء بالقضاء، ومعه العدالة بشكل عام، إلى أسمى المستويات، لتكون قاطرة قوية لصون الحقوق وتحقيق التنمية القارية المستدامة بكل أبعادها”، مبرزا أن هذا اللقاء “يأتي في سياق اهتمام إفريقي راسخ بموضوع التنمية المشتركة والتعاون في مختلف القطاعات”.
وبنبرة ملؤها الإيمان برسالة القضاء، شدد رضوان على أن “المبادرة الملكية من أجل المحيط الأطلسي”، التي أطلقها جلالة الملك محمد السادس، تشكل فرصة استراتيجية للتفكير في خلق تكتل أطلسي إفريقي، يهتم بتكريس مفاهيم العدالة وحقوق الإنسان كمدخل لتحقيق الازدهار المشترك.
من جانبه، رسم محمد عبد النباوي، الرئيس الأول لمحكمة النقض؛ الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، (رسم) لوحة دقيقة للرهانات المستقبلية، مشيرا إلى أن “الزحف السريع لأنظمة الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي ماض نحو إحداث تغييرات شاملة”، مما سيضع العدالة أمام تحديات غير مسبوقة، لافتا إلى أن “الحديث عن استقلال القاضي قد يأخذ شكلا جديدا يرتبط بالبرمجيات وواضعيها أكثر من ارتباطه بالقاضي ذاته”.
وفي استرسال فكري عميق، دعا عبد النباوي إلى التفكير بجدية في إحداث لجنة إفريقية لفعالية العدالة، تضع مؤشرات للنجاعة القضائية على غرار اللجنة الأوروبية، مذكرا بأن “استقلال القضاء ليس ترفا مؤسساتيا، بل أساس صلب لتحقيق العدل وصيانة الحقوق والحريات”.
أما الحسن الداكي، الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، رئيس النيابة العامة، فقد أبرز البعد العملي لهذا المؤتمر، معتبرا إياه “تجسيدا فعليا للنهج القائم على تقوية وتضافر جهود النظم القضائية بالقارة الإفريقية لدعم استقلال القضاء”، مشددا على أن “ما يتيحه اللقاء من فرص متعددة لتطوير العدالة وتيسير ولوج المتقاضين إليها، عبر تبادل التجارب الواسعة والمتنوعة، سيثمر بلا شك توصيات قادرة على الارتقاء بالعدالة الإفريقية”.
ولم يفت الداكي التأكيد على الدينامية الإصلاحية التي تشهدها المملكة المغربية تحت القيادة الرشيدة لجلالة الملك محمد السادس، والتي أثمرت مكاسب كبرى في مجال تعزيز استقلال السلطة القضائية ودعم الدبلوماسية القضائية جنوب–جنوب.
من الضفة الدولية، أكد جياكومو أوبيرتو، الكاتب العام للاتحاد الدولي للقضاة، أن “المغرب يوفر أرضية مواتية للحوار وتبادل الرؤى حول الارتقاء بالأداء القضائي”، مشيدا بالالتزام الراسخ للقضاة المغاربة بخدمة العدالة، ليس فقط في إفريقيا بل على الصعيد العالمي، معتبرا أن المغرب “عضو فاعل ومؤسس أساسي للمجموعة الإفريقية بالاتحاد الدولي”.
وفي مداخلة لها، أكدت كواسي مارسال، رئيسة المجموعة الإفريقية للاتحاد الدولي للقضاة، أن اللقاء “فرصة لتجديد التزامنا بتعزيز استقلال السلطة القضائية”، معتبرة أن “استقلالية القضاء ركيزة أساسية لضمان الحقوق والحريات، واللقاء فضاء لتبادل أفضل الممارسات وتعزيز شبكات التعاون بين الأنظمة القضائية الإفريقية”.
على مدار الأيام الممتدة إلى غاية 24 أبريل الجاري، سيتحول هذا المؤتمر إلى منصة رفيعة للحوار والتفكير الاستراتيجي، ومحطة محورية لتعزيز ثقافة التكوين القضائي المشترك، في أفق بناء عدالة إفريقية قادرة على مواجهة تحديات العصر، من الرقمنة إلى الذكاء الاصطناعي، ومن رهانات التنمية إلى صيانة الكرامة الإنسانية.
وفي الدار البيضاء، المدينة التي لا تنام، ارتفعت أصوات العدالة مجتمعة، متجاوزة الحدود الجغرافية والاختلافات القانونية، لتحمل رسالة مفادها أن قضاء مستقلا، موحد الرؤية، هو جسر عبور إفريقيا نحو غد أكثر عدلا وإنصافا.
للإشارة فقد انعقد هذا المؤتمر بمناسبة اجتماع المجموعة الإفريقية التابعة للاتحاد الدولي للقضاة، تحت شعار “من أجل قضاء إفريقي مستقل”، الذي تنظمه الودادية الحسنية للقضاة تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس من 21 إلى 24 أبريل؛ خاصة وأن المغرب يعد عضوا فاعلا في الاتحاد الدولي للقضاة، وأحد المؤسسين البارزين للمجموعة الإفريقية بالاتحاد.