أمام محكمة الاستئناف بمدينة الدار البيضاء، اصطف أفراد وهم يحملون لافتات، يهتفون بشعارات منددة بمحاكمة المتورطين في أحداث الريف؛ الكل يدلي بدلوه، والكل يهتف ويصرخ ويندد، في جو طبيعي عادي لم ينكر عليهم أيا كان حقهم الدستوري والإنساني.
وسط بهو محكمة الاستئناف الفسيح، جُعلت خيمة كبيرة لاستقبال خدام مهنة المتاعب؛ الصحافة الوطنية، بمختلف منابرها ودروبها ومشاربها، لا يسمح لك إلا بحمل قلمك ومذكرتك إلى داخل القاعة، فيما الباقي، وبعد تسجيل اسمك والتأكد من هويتك وبطاقتك المهنية، يُترك ما تحمله من أغراض لدى موظفين للسهر على تنظيم المحاكمة.
ما أن تلج القاعة رقم 7، حتى تطالعك جحافل المتابعين لأطوار المحاكمة، التي تجشمت عناء الحضور لمتابعة أطوار محاكمة المتورطين في أحداث الريف؛ قسمات بعضها عابسة، فيما الأخرى ترقب، وبعضها كأن على رؤوسها الطير..
وجوه عليها غَبَرَة، اصطفت خلف القاعة، ترقب وتطالع وتتابع عبر شاشة جعلت لتسهيل متابعة المتواجدين في الصفوف الخلفية لكل شاردة وواردة داخل المحكمة، فيما الصفوف الأمامية؛ ضَجَّتْ بهم القاعة؛ عشرات المحامين، بين مدافعين عن الزفزافي ومن معه، ومدافعين عن ضحايا العنف وتخريب المملكات العمومية والمطالبين بالحق المدني.
غير بعيد عن مكان ممثل الحق العام؛ النيابة العامة، عشرات المتهمين بلغ عددهم 31 معتقلا فيما واحد منهم في حالة سراح، بوجوه شاردة، تظن أن يُفعلَ بها فَاقِرَة، وقد كانت في مأمن عن الشبهات والمحاكمة وقطع الرحم وإثارة النعرات.
حقيقة لا مراء فيها ولا ارتياب، وحق لا يماري فيه أيا كان، أن دستور 2011، منح المواطنين حقوقا كنا نعدها في زمن ما، أضغاث أحلام، ممارستها لن تتأتى إلا وفق ضوابط قانونية وما يسمح به الشارع، ودولة الحق والقانون؛ من تظاهر سلمي ومطالبة بحقوق اجتماعية واقتصادية ..، شريطة سلوك مساطرها القانونية التي لن يعارضها إلا “مساخيط هذا الوطن”.
غير أن بلسم وشفاء ذا القول؛ قرار الملك محمد السادس، الثلاثاء 24 أكتوبر الجاري، وهو ذات اليوم الذي بدأت فيه أطوار محاكمة المتورطين في أحداث الريف، بإعفاء بعض الوزراء من مهامهم وتوبيخ بعضهم الآخر ومتابعة مسؤولي بعض المؤسسات، تفعيلا للقاعدة الذهبية القاضية بربط المسؤولية بالمحاسبة، على إثر تقديم رئيس المجلس الأعلى للحسابات، السيد ادريس جطو، للتقرير الذي كُلف بإنجازه حول ملف الحسيمة “منارة المتوسط”.
على منصة المحكمة، انبرى رئيس الجلسة، وبجانبه مُستشارَين، فيما على يمينهم ممثل القضاء الواقف، وقد تراكمت أمامه عشرات الملفات، وعلى يسارهم كاتب للضبط يدون ويتابع أطوار المحاكمة، هي لعمري غرفة الجنايات الابتدائية لدى استئنافية الدار البيضاء، التي تتابع أطوار قضية أحداث الريف بكل تداعياتها وأطرافها وأسبابها ومسبباتها وأبعادها..
هتافات حينا، وصراخ أحيانا أخرى، الكل يغلي، محامون يطالبون بالكلمة، لهم ولمؤازريهم، ونيابة عامة ترفض وتعارض منح الكلمة للمتهمين بناء على ما يقتضيه القانون، باستثناء الكلمة للمدرجةِ أسماؤهم لدى رئاسة الجلسة، فيما الأخيرة تنسق وتدقق وتستمع بإمعان، لا لِشيء، إلا لأنها ممثلة ثالوث دولة الحق والقانون، السلطة القضائية.
“الله يَحْسَنْ عْوَانْ” ذات الرئاسة؛ التي وإن قيل عن القضاء، لا يقضي القاضي وهو غضبان، فكيف بمحاكمة كل طقوسها وأجوائها وقاعتها وأطرافها تدعو للغضب وتجلب كل الأمراض العصبية؛ وكأني بالقول المأثور المغربي يُجلجل بمسامع قضاة الجلسة جالسهم وواقفهم، لا تدري “لَمَّنْ لِيدْ الفُوقَانِيَّة”.
القاعة تغْلي كغلْي المِرْجَلِ، والرئاسة تستمع لدفاع المتهمين، ولدفاع الضحايا، وللنيابة العامة، فيما الكل يَمُوج، منافحا عن قناعاته وما انتهي إليه نظره، حينما انحسرت الجلسة في مناقشة ملتمس دفاع المتهمين، من المحكمة، مهلة ثلاثة أسابيع للاطلاع على الملف.
غير أن النيابة العامة، وبعد أن أبدى ممثلها تفهمه لمطالب الدفاع، رفضت بناء على عدة فصول ومقتضيات قانونية؛ مستشهدة بقانون المسطرة الجنائية، التأجيل ومنح الدفاع مهلة الثلاثة أسابيع؛ مؤكدة أن تدبير وقت المحاكمة يعتبر أحد ركائز النجاعة القضائية، ومؤكدة استعدادها لمد الدفاع بأية وثيقة يراها مهمة.
ما أن أنهى ممثل النيابة العامة تدخله، الذي طالب المحكمة كذلك، بضم مختلف ملفات المتهمين المتابعين على خلفية أحداث الريف، حتى بدأت الجلسة تموج، صراخ وطلب للكلمة، وأصوات جُهُورية تحاكي هتافات الاحتجاجات، مطالبة بمهلة التأجيل، فيما البعض الآخر، يلتمس إعطاء الكلمة لأحد المتهمين داخل الجلسة، الأمر الذي رفضته النيابة العامة اعتبارا لعدة دفوعات حسب نظرها.
انتزع أحد أعضاء دفاع المتهمين الكلمة، مطالبا بالتأجيل وملتمسا الكلمة لناصر الزفزافي، بصوت غاضب انتزع من خلاله قهراً صمتَ القاعة؛ غير أن رئيس الجلسة كان له بالمرصاد، فعاقب المحامي بالقول: “أنت تشوش على المحكمة وتتحدث دون استئذان”.
بصوت خافت وحكيم، بَصَمته السِّنوُنُ الخوالي، وآلاف القضايا والخطوب والمدلهمات، لن يوازيه إلا رأسه الذي اشتعل شيبا، وبعد أن التفت يُمنة ويُسرة، للاستشارة مع مستشاريه، قررت المحكمة على لسان رئيس جلستها، تأجيل الأخيرة إلى 31 أكتوبر الجاري.
كنت أعتقد بأن النطق بالقرار، سيُسْلم الجلسة إلى الهدوء والراحة، وانصراف كلٍّ إلى غايته، وحيث جُبلنا في عقلنا الباطن على الشغب والصراخ لسبب أو لغير سبب، تعالى الصراخ والهرج والمرج والهتافات مرة أخرى؛ معلنة عن أطوار محاكمة لن تكون كباقي المحاكمات.
الجدير ذكره، أن المتهمين يتابعون، كل حسب المنسوب إليه، من أجل جناية المشاركة في المس بسلامة الدولة الداخلية عن طريق دفع السكان إلى إحداث التخريب، وجنح المساهمة في تنظيم مظاهرات بالطرق العمومية وفي عقد تجمعات عمومية بدون سابق تصريح، وإهانة هيئة منظمة ورجال القوة العامة أثناء قيامهم بوظائفهم، والتهديد بارتكاب فعل من أفعال الاعتداء على الأموال، والتحريض على العصيان والتحريض علنا ضد الوحدة الترابية للمملكة.
كما يتابعون من أجل جنح المشاركة في المس بالسلامة الداخلية للدولة عن طريق تسلم مبالغ مالية وفوائد لتمويل نشاط ودعاية من شأنها المساس بوحدة المملكة المغربية وسيادتها وزعزعة ولاء المواطنين لها ولمؤسسات الشعب المغربي، والمساهمة في تنظيم مظاهرات بالطرق العمومية وعقد تجمعات عمومية بدون سابق تصريح والمشاركة في التحريض علنا ضد الوحدة الترابية للمملكة.
طيب محمد