مساحة اعلانية
اخــر الاخبــار

رهانات وتحديات مكافحة غسل الأموال، حسب رئيس النيابة العامة

ألقى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض رئيس النيابة العامة، أمس الجمعة بطنجة، كلمة بمناسبة حضور الندوة الدولية المنظمة من طرف الاتحاد الدولي للمحامين بشراكة مع هيئة المحامين بطنجة وجمعية هيئات المحامين بالمغرب حول موضوع: “مكافحة غسل الأموال: الرهانات والتحديات”، هذا نصها:

“بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وآله وصحبه أجمعين

حضرات السيدات والسادة كل بإسمه وصفته والإحترام والتقدير الواجب له.
إنه لشرف كبير يغمرني بحضوري معكم أشغال هذه الندوة الدولية، وبهذه المناسبة أود أن أتقدم بالشكر الجزيل للسيدة رئيسة الإتحاد الدولي للمحامين والسيد الرئيس الفخري للاتحاد والسيد رئيس جمعية هيئات المحامين بالمغرب والسيد نقيب هيئة المحامين بطنجة، على دعوتهم الكريمة للمشاركة في هذه الجلسة الافتتاحية، والشكر موصول أيضا لكافة المنظمين والساهرين على إنجاح هذه الندوة التي يأتي تنظيمها في سياق دولي يعرف تنامي تطور مظاهر الجريمة المنظمة العابرة للحدود والذي يعتبر جريمة غسل الأموال وما تشكله من تحديات حقيقية أقوى تجلياتها، كما تشكل أحد المعيقات التي تواجه الجهود المبذولة من قبل الساهرين على إنفاذ القانون لتحقيق الأمن الاقتصادي للدول فضلا عن ما تتميز به هذه الجريمة من تداخل لعدة أطراف في إرتكابها واستعمال أساليب عدة وطرق متطورة لتمويه المصدر غير المشروع للأموال مما يؤدي إلى خلق نوع من الاقتصاد الوهمي وضرب القدرة التنافسية للأنشطة المشروعة والتأثير سلبا على مسيرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية للدول.


حضرات السيدات والسادة
إن انعقاد هذه الندوة الدولية يعتبر مناسبة سانحة للتذكير بالتقدم الإيجابي الذي حققته المنظومة الوطنية لمكافحة غسل الأموال و تمويل الإرهاب في التعاطي مع هذا الصنف من الإجرام من خلال المقتضيات التشريعية والإجراءات العملية التي تم إعمالها والتي تنسجم مع ا لمعايير المعتمدة من طرف مجموعة العمل المالي GAFI ، لا سيما التعديلات التشريعية التي همت القانون 18-12 المتعلق بمكافحة غسل الأموال وذلك في إطار التفاعل الإيجابي لبلادنا مع ملاحظات مجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا التي توصي الدول بتحديث المنظومة القانونية الداخلية وملاءمتها مع المعايير ذات الصلة، حيث جاء القانون المذكور بمستجدات مهمة، أبرزها الرفع من الحدين الأدنى والأقصى للغرامة المحكوم بها، وتوسيع لائحة الجرائم الأصلية لجريمة غسل الأموال وتعميم الإختصاص القضائي لمواجهة هذه الجرائم على محاكم الدار البيضاء، فاس ومراكش إلى جانب محكمة الرباط، مما ساهم بشكل كبير في تخفيف الضغط على هذه الأخيرة التي كان لها إختصاص وطني، بالإضافة إلى غيرها من الإجراءات التي ساهمت مجتمعة في خروج بلادنا من اللوائح السلبية للمجموعة المذكورة، وهي مؤشرات إيجابية ساهمت في تعزيز الثقة و المصداقية في منظومتنا الاقتصادية، و جعل بلادنا وجهة آمنة للفاعلين الاقتصاديين و المستثمرين.
حضرات السيدات والسادة
إن النصوص التشريعية والآليات المؤسساتية وإن كانتا ضروريتين، إلا أنهما غير كافيتين لوحدهما للحد من المخاطر المتنامية لجرائم غسل الأموال وتمويل الإرهاب ورفع التحديات التي تطرحها، بل إن الأمر يستلزم بالموازاة مع ذلك بذل مجهودات على مستوى تأهيل كفاءات ومهارات مختلف الفاعلين في هذا المجال وتطوير طرق اشتغالهم، سواء تعلق الأمر بالأشخاص الخاضعين و سلطات الاشراف و المراقبة أو أجهزة إنفاذ القانون، إيمانا منا بأن مكافحة هذا النوع من الإجرام الخطير لا يهم فئة معينة دون أخرى وإنما هو مسؤولية الجميع مما يفرض علينا التنسيق وتقاسم الممارسات الفضلى في هذا المجال.
وفي هذا السياق وإسهاما من رئاسة النيابة العامة في الجهود الوطنية المبذولة لمكافحة جريمة غسل الأموال، بادرت إلى اتخاذ مجموعة من الإجراءات والتدابير التي تصب في اتجاه تحقيق هذه الغاية، من خلال حث النيابات العامة ومواكبتها على سرعة إنجاز الأبحاث التمهيدية والمساعدة في تجهيز الملفات لتقليص أمد البت في الدعوى العمومية، بالإضافة إلى تفعيل البحث المالي الموازي. وفي هذا الإطار وجهت “رئاسة النيابة العامة” مجموعة من الدوريات إلى مختلف النيابات العامة على الصعيد الوطني كان آخرها الدورية رقم 15/ر ن ع/2023 بتاريخ 01 غشت 2023، حول التنفيذ الأمثل للتدابير والإجراءات ذات الصلة بالتعاون القضائي الدولي في مجال مكافحة غسل الأموال والجرائم الأصلية وتمويل الإرهاب، تم فيها دعوة النيابات العامة إلى إيلاء هذا الموضوع عناية خاصة وذلك بالسرعة والفعالية اللازمتين لضمان عدم إفلات الجناة من العقاب والحيلولة دون التصرف في الممتلكات أو المتحصلات الناتجة عن غسل الأموال أو الجرائم الأصلية وتمويل الإرهاب.
وتجسيدا للمجهودات التي تقوم بها النيابات العامة في المحاكم للتصدي لجريمة غسل الأموال، فقد تم تسجيل ارتفاع في عدد القضايا المسجلة منذ دخول قانون غسل الأموال حيز التنفيذ إلى غاية نهاية سنة 2023 حيث ارتفع عدد القضايا من 336 قضية مسجلة خلال الفترة ما بين 2008 (تاريخ دخول قانون غسل الأموال حيز التنفيذ) إلى سنة 2018 (تاريخ خضوع المغرب للتقييم من طرف مجموعة العمل المالي لشمال أفريقيا والشرق الأوسط)، إلى ما مجموعه 2927 قضية إلى غاية نهاية سنة 2023، كما عرف عدد الأحكام الصادرة في قضايا غسل الأموال ارتفاعا ملحوظا خلال نفس الفترة حيث ارتفع من 27 حكما ما بين سنة 2008 و 2018 إلى ما مجموعه 311 حكما نهاية سنة 2023، هذه الأرقام تعكس حجم المجهودات التي بذلها قضاة النيابة العامة وقضاة الحكم وضباط الشرطة القضائية بمختلف أصنافهم في هذا المجال.
وإلى جانب ذلك، عملت رئاسة النيابة العامة على إحداث تطبيقية معلوماتية خاصة بتتبع قضايا غسل الأموال وتحيينها والحصول على إحصائيات دقيقة بشكل أكثر فعالية، بالإضافة إلى إعتماد دليل إرشادي حول تقنيات البحث والتحقيق في جرائم غسل الأموال وتمويل الإرهاب وتعقب الأموال ذات الصلة وحجزها، هذا الدليل الإرشادي الذي تم إعداده بناء على الملاحظات الواردة في تقرير التقييم المتبادل للمملكة المغربية وذلك بتنسيق وشراكة مع المديرية العامة للأمن الوطني والمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني وقيادة الدرك الملكي، وقد تم تعميمه على جميع قضاة النيابة العامة على الصعيد الوطني وكذا مختلف المؤسسات المعنية بمكافحة جرائم غسل الأموال وتمويل الإرهاب وباقي أجهزة إنفاذ القانون.
وفي إطار سعي رئاسة النيابة العامة إلى تكريس آلية التنسيق الوطني في مجال مكافحة مختلف أنماط جرائم غسل الأموال وتمويل الإرهاب والجرائم التي تهدد النظام البنكي والمالي، تم توقيع مجموعة من إتفاقيات الشراكة والتعاون مع هيآت ومؤسسات وطنية كبنك المغرب، والهيأة المغربية لسوق الرساميل، ومجلس المنافسة والمجلس الأعلى للحسابات والهيأة الوطنية للمعلومات المالية حول المواضيع ذات الاهتمام المشترك بالإضافة إلى تبادل الخبرات وتعزيز قدرات المكلفين بمعالجة هذه القضايا.
ولقد مكن التعاون مع بنك المغرب من وضع نظام معلوماتي آمن يهدف إلى تسريع وتيرة معالجة طلبات المعلومات الصادرة عن النيابات العامة على الصعيد الوطني في إطار الأبحاث القضائية، حيث أصبح بإمكان النيابة العامة عبر هذا النظام القيام بتوجيه الطلب إلى بنك المغرب والحصول على عناصر الجواب في وقت وجيز جدا دون الحاجة إلى التبادل اليدوي للوثائق والمستندات، كما ساهم التعاون مع الهيأة الوطنية للمعلومات المالية في تبادل المعلومات بين الطرفين في الشق المتعلق بجريمة غسل الأموال وتمويل الإرهاب والجرائم الأصلية وإستعمالها في الأبحاث المالية الموازية وذلك عبر النظام المعلوماتي الممسوك لدى الهيأة GOmail (كواميل) بشكل سريع وآمن وفعال.
حضرات السيدات والسادة
إذا كانت التحديات التي تواجهنا جميعا في سبيل مواجهة جرائم غسل الأموال يذكيها تنامي منسوب التجارة الإلكترونية وتطور التقنيات التكنولوجيا الحديثة كالأصول الافتراضية وانتشار وسائل الدفع الحديثة و الاقبال المتزايد على الانترنيت المظلم، وما يطرحه كل ذلك من تحديات بشأن استخدامها في غسل الأموال و تمويل الإرهاب، فإن الرهان معقود على مواصلة الجهود سواء الفردية أو على مستوى تعزيز التنسيق الوطني أو الدولي على ذات القدر من الحرص، و لن يتأتى ذلك إلا من خلال مواصلة تعزيز الإجراءات والضوابط الداخلية لمكافحة ارتكاب الجريمة، وتحديث الترسانة القانونية بشكل مستمر ، فضلا عن تقوية تدابير الوقاية وإدارة المخاطر، و التبليغ عن المعاملات المشبوهة، إلى جانب برامج تكوينية وورشات عمل دورية في مجال مكافحة غسل الأموال بهدف تعزيز قدرات مختلف الفاعلين في هذا الإطار، وقد نظمت رئاسة النيابة العامة عدة دورات تكوينية استهدفت تقوية مهارات أجهزة إنفاذ القانون، من بينها الدورة التكوينية التي تم تنظيمها بتنسيق مع المجلس الأعلى للسلطة القضائية عقب التعديل الأخير الذي طال قانون غسل الأموال والذي عمم الإختصاص القضائي على بعض محاكم المملكة إلى جانب محكمة الرباط، بالإضافة إلى مشاركة رئاسة النيابة العامة في ندوات تكوينية أخرى نظمها باقي الشركاء كوزارة العدل والهيئة الوطنية للمعلومات المالية، هذا وستواصل رئاسة النيابة العامة تنظيم دورات تكوينية في إطار التكوين المستمر بالتنسيق مع باقي الشركاء المهتمين بهذا الموضوع من أجل رفع قدرات منتسبيها وتقديم توصيات وإقتراحات كفيلة بالإسهام في تجويد الأبحاث والعمل القضائي.
ووعيا بأهمية التعاون والتنسيق الدولي في مجال مكافحة غسل الأموال، فقد بادرت النيابات العامة لدى المحاكم إلى تفعيل مجموعة من طلبات التعاون القضائي ذات الصلة بهذا الموضوع وتنزيل المعايير الدولية في هذ المجال وعلى رأسها توصيات مجموعة العمل المالي، وبالموازاة مع ذلك عملت رئاسة النيابة العامة على توقيع مجموعة من مذكرات التعاون مع بعض النيابات العامة بالدول الصديقة التي تربطها ببلادنا علاقات قضائية متميزة، تصب في اتجاه تعزيز التعاون للتصدي لجرائم غسل الأموال وتمويل الإرهاب وتعزيز قدرات أعضاء النيابة العامة في هذا المجال (على سبيل المثال مذكرة التفاهم المبرمة مع النيابة العامة لدى محكمة النقض بالجمهورية الإيطالية ومذكرة التفاهم مع إدارة الادعاء العام بكينيا وغيرها…).
حضرات السيدات والسادة
إن رهان مكافحة غسل الأموال لا يعتبر عملية ظرفية مرتبطة بتنزيل خطة عمل أو الخروخ من لائحة معينة، بقدر ما نعتبرها من وجهة نظرنا مقاربة مستدامة تقوم على تعزيز المكتسبات ومواصلة تطوير طرق الاشتغال وتدارك النواقص بكل مسؤولية في سبيل رفع التحديات المطروحة، وهي مقاربة تعكس انخراط المملكة المغربية في ورش مكافحة الفساد المالي بكل مظاهره وطنيا ودوليا.
ومما لا شك فيه أن هذه الندوة الدولية، بالنظر إلى غنى المواضيع المبرمجة فيها وراهنيتها، ستشكل فرصة سانحة لتبادل التجارب والممارسات الفضلى المعتمدة لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، كما ستساهم في الخروج بخلاصات مهمة حول آليات الوقاية منها، لا سيما وأنها تعرف مشاركة مهنيين وخبراء على مستوى عال من الكفاءة والمعرفة بمخاطرها، حيث سيؤطر أشغالها محامون مرموقون ومتخصصون في الموضوع، وهي مناسبة للإشادة بالأدوار التي تقوم بها مختلف الهيئات المهنية المساعدة للعدالة في مقدمتها هيئة الدفاع، وما تنظيم هذه الندوة الدولية اليوم إلا دليل قوي على هذه الإرادة الجماعية للتصدي لجريمة غسل الأموال.
وختاما، لا يسعني إلا أن أجدد شكري وامتناني للسيدة رئيسة الإتحاد الدولي للمحامين والسيد الرئيس الفخري للاتحاد والسيد رئيس جمعية هيئة المحامين بالمغرب والسيد نقيب هيئة المحامين بطنجة، على دعوتهم الكريمة وتنظيمهم لهذه الندوة العلمية المتميزة، ولكافة الحضور الكريم، متمنيا أن تكلل أشغالها بالتوفيق والنجاح.
وفقنا الله لما فيه خير بلادنا وسلامة وطننا تحت القيادة الرشيدة لمولانا المنصور بالله صاحب الجلالة محمد السادس أعز الله أمره وحفظه بما حفظ به الذكر الحكيم، وأقر عينه بولي عهده الأمير الجليل مولاي الحسن وشد أزره بصنوه السعيد الأمير مولاي رشيد، وكافة أسرته الشريفة، إنه سميع مجيب.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته”

شارك المقال شارك غرد إرسال